2025/06/22 | 0 | 813
استنطاقُ الذوات والأدوات في الشعر الكربلائي مقاربة في تجربتي جواد جميل وناجي حرابة
يعتبر عنوان الديوان هو المحور الذي تدور حول قطبه النصوص فهذا جواد جميل من خلال عنوان ديوانه (الحسين لغة ثانية )) يسلك طريق التجريد والرمز و يفتح بوابة كبرى من التأويل وكأن هذه اللغة الثانية ترمز لميتافيزيقية تحمل في طياتها دلالات يعجز وصفها تتكأ على الإيحاء الشعري واللغة المكثفة ويتجلى ذلك في افتتاحية نصوصه حيث يستدعي صوت الحسين ليقول:
عينايَ صمتٌ غريبٌ، خلفهُ لغةٌ
أخرى ..وأشرعةٌ تنأى تَبتعِدُ
بعكس عنوان ديوان ناجي حرابة الذي يرسم ملامح المشروع الشعري بوصفه تقريرًا إجرائيًا لمحكمة شعرية "محاكمة الأسلحة الظالمة في معركة كربلاء" فهو واضح في رؤيته التي يتبناها ليؤسّس نصًا واقعيًا تقنيًا مؤسسًا على المحاكمة، مما يعكس تحوّلًا في خطاب الشعر الكربلائي من التأمل إلى الإدانة وسيكتشف القارئ للديوان بأنه أمام محكمة شعرية رفيعة المستوى من ناحية توليد الفكرة والتحليق باللغة في خيال واسع.
وكلٌّ منهما يشكّل رؤية متكاملة تجاه كربلاء، إما كوعي باطني، أو كملف واقعي مفتوح
و من العنوان، تتحدد طبيعة التلقي: بين نصٍّ مفتوح يتعامل مع “الحسين” كلغة، ونصٍّ مغلق يتعامل مع أدوات الحرب كمتهمين في ساحة العدالة
المحور الثاني: دلالة الإهداء بين الرفض والتغييب:
لا يأتي الإهداء في ديواني جواد جميل وناجي حرابة بصورته التقليدية، بل يُحوَّل إلى عتبة غائبة تحمل من الدلالة أكثر مما قد تقوله الكلمات. فبين الرفض الصريح والتغييب المقصود، تتجلّى بلاغة الغياب، حين يصبح الإهداء مشبعًا بالرهبة والانكسار
* الإهداء في حضرة (ألم):- لم تغب (ألم) لدى كليهما متأرجحةً بين البداية والختام والتي بدأها جواد في إهداءه فيضع (ألم) في مقام الخوف والغياب، كأنها حروف خائفة ومقطعة لم يُكمل بها النص بعد، أو كأن الوحي ذاته توقّف عند هذا المدخل ولم يُكمل (ذلك الكتاب)
وختمها ناجي حرابة في منتصف ديوانه حينما أدلت (البارية) بشهادتها صارخةً :
ضممتُ بأحناي
أعظم ما يُوقدُ الدّهرُ
من لاهبات الألم
ولمّا أصختُ
سمعتُ خليطاً من اللّحم والعظم
من مشرق النّحرِ
يتلُو (أَلَمْ)
حيث يجعل ناجي حرابة الحسين يتلو (ألم) من مشرق النحر، فإنّه لا ينقل صورة دموية فحسب، بل يؤسس لقراءة لاهوتية تنطلق من الجرح نحو الوحي، وتضع النص الإلهي في فم الشهادة بمعنى أن الآية تمّت، والتضحية فسّرت النص
فكلا الشاعرين يكتبان (ألم) بين قوسين، ويوحيان بقداستها القرآنية، وكأنها آية تُتلى لا مجرد كلمة.
* علامة شعرية معلّقة بين الغياب والانتظار:- يتجه إهداء جواد جميل لرمزٍ مقدس يتجاوز التاريخ عبَّر عنه بالأخضر الذي فضَّل الغياب ولم يعد بعد
والمقصود بالأخضر هو الحسين عليه السلام بقرينة الرؤيا الخامسة عشر
التي صرَّح بها قائلاً
((وخيولٌ تُمزِّقُ الجسدَ الأخضرَ
تغدو مخبولةً وتروحُ
سيجيءُ الحسينُ يوماً يجيءُ البحرُ
في خطوهِ يجيءُ المسيحُ))
وكذلك بقرينة النبوءة التاسعة التي يشير إلى الحسين بصفته اتخذ الرحيل مسلكاً واتخاذنا الانتظار محطة موجعة
يا أيُّها الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمِ،))
والمكفَّنُ بالغبارْ،
ظمِئتْ إليكَ الأنهرُ الخجلى،
وأومأتِ البحارْ!
يا أيُّها الممتدُّ بينَ جراحِنا والأمسِ،
علِّمْنا الرحيلَ معَ النهارْ،
وجعٌ.. ونحنُ مُسَمَّرونَ
على صليبِ الإنتظارْ!))
بينما ناجي حرابه يُغيِّبُ الإهداء في ظاهر الديوان لكنه في عمق نصوصه يوجه البوصلة لرمزٍ يُرتجى مجيئه
فلا نرى إهداءً ظاهرًا، بل نجد افتتاحًا بعنوان لافت: “في الطريق إلى المحكمة”. وكأنَّ الشاعر ناجي حرابة يرى أن المحاكمة الشعرية الكبرى هي نفسها الإهداء، لا لشخص بعينه، بل للتاريخ، للعدالة، ولـ”القارئ المنتظر” الذي يظهر ملامحه بوضوح في ختام الديوان، حيث تتوجه القصيدة الأخيرة نحو الإمام المهدي (عج) بوصفه القارئ النهائي لـ (ألم) الكبرى، أي لمذبحة كربلاء لأنه الآخذ بثأر الحسين والطالب بدمه وفيها يقول الشاعر :
الأرضُ ذابلةٌ
وفي فمها الدُّعاءُ دمٌ
ومُقلتُها شُبُوحٌ
نحو فارسها المُغيّب
خلف سرداب الأصيل
من ذا سيرفعُ للعدالة أُسّها
ويُقيمُ محكمة الصّلاح
بطُول قامات النّخيل ؟
وبطُول تاريخ الطُّغاة
بحجم نار المُستحيل
...
أطلق حصان النُّور
من كفّ ( الـمُؤمّل )
إنّ حُنجُرة الشُّرُوق بوهجها
سُجنُ الصّهيل
كفكف دُمُوع الجُرح يا ربّي
وهيّئ في الأمان لهُ مقيل
في ختام هذا المحور نستطيع القول إن (ألم) في الإهداءين تتحول من حرفٍ إلى رمز، ومن نغمة خائفة إلى نشيدٍ دموي، لكن معناها لا يكتمل إلا بظهور من سيقرأها كلها: الإمام المهدي بوصفه القارئ الختامي للشهادة الحسينية
المحور السابع: الخاتمة بين الإنفتاح الرؤيوي والإغلاق القضائي:
حين تُطوى صفحات الديوانين، لا يُطوى معهما وجدان القارئ، بل يخرج محمّلًا بأسئلة مفتوحة، ورؤى متشابكة، تنتمي إلى الشعر بقدر ما تنتمي إلى التأريخ. فالنهايات في تجربة جواد جميل وناجي حرابة ليست قفلاً بل انبثاقًا، وليست حكمًا نهائيًا بل دعوة لإعادة فتح الملفات الشعرية من جديد
لذلك يقدّم جواد جميل خاتمة ذات إشراقة شعرية، إلا أنّها تتلبس برداء العجز، فبعد رحلة شعريّة غنية بالعاطفة المتوهجة، يصل إلى نبوءته الأخيرة مكسورًا بلغة لا تكفي، واعترافًا بجرح لم يُقرأ بعد:
“لغة واحدة
كيف تلغي المسافاتِ
بين التوهج واللحظة الباردة؟
لم تزل بين جرح الحسين
وبين قصائدنا
مدنٌ قانيةٌ
ولكي نقرأ الجرح
لا بد من لغةٍ ثانية!"
هنا يتقاطع الحنين مع الاعتراف بالفجوة، وكأنّ الشعر ـ على عظمته ـ لم يبلغ بعدُ الحسين، بل ظل يركض خلفه عبر “مدن قانية”.
فالخاتمة عند جواد تُعلِن الحاجة الدائمة للغة تتجاوز اللغة، ولرؤيا تتجاوز القصيدة
في المقابل، ناجي حرابة يسير في منحى موازٍ لكنه أكثر حزمًا، إذ يجعل من خاتمة ديوانه مشهدًا قضائيًا يُنتظر فيه القاضي ويقول:
“الأرضُ ذابلةٌ
وفي فمها الدُّعاءُ دمٌ
ومُقلتُها شُبُوحٌ
نحو فارسها المُغيّب
خلف سرداب الأصيل”
إنه لا كتفي بتأريخ المذبحة، بل يُصدر أحكامًا مُعلّقة تنتظر التنفيذ، ويُخاطب الغائب المنتظر:
“من ذا سيرفعُ للعدالة أُسّها
ويُقيمُ محكمة الصّلاح
بطُول قامات النّخيل؟”
وفي ختام المحكمة الشعرية، لا يُغلق ناجي حرابة دفتره بنقطة صامتة، بل يفتحه على وجعٍ شخصي صاعد، حين يتمنى أن يكون هو ذاته الدرع الذي يُستسقى بالجراح، لذلك اعتلى صوته ملبياً واعية الحسين (ع):
"ليتني درعُك يا مولاي
أستسقي الجراحات
وأذوي
وأُذرّى
حول (ميمُونك) أشلاء فداء"
هذه الأمنية ليست ترفًا وجدانيًا، بل امتدادًا طبيعيًا للموقف الشعري فمن وقف أمام المحكمة كشاعر، لم يعد يطيق البقاء في موقع المحاكمة، بل يتمنى أن يتحوّل إلى شاهد يُقتل، لا إلى شاهد يُدلي بشهادته فقط.
في ختام التجربتين، لا نخرج من القصائد كما دخلناها، بل نحمل معنا جراحًا مؤجّلة، وأسئلة مفتوحة، كأنّ القصيدة الحسينية لا تُغلق، بل تظل في حالة من التوتر الجمالي والوجداني.
بين الشاعر الذي يختم ديوانه بـ رؤيا تتجاوز اللحظة وتعلّق الأمل على الغد الموعود، والشاعر الآخر الذي يختم بـ محكمة شعرية مغلقة تقرأ وقائع الدم وتُدين المعتدين، تبرز النهاية بوصفها لحظة فكرية ودرامية كثيفة.
جديد الموقع
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي
- 2025-12-27 العالم الرقمي و خصوصيتنا